هناك في مصر، أُنشئت "قاهرة جديدة" غير العاصمة الأصيلة، لتُنقل إليها الدوائر الحكومية، في خطوة قالت عنها الحكومة المصرية إنها ستقلل الزخم السكاني الحاصل في العاصمة الأصيلة، وسيكون فيها متنفس للأهالي بعد توفر المساحة لهم، لتُنقل هذه التجربة إلى العراق وتدخل عبر بوابته الغربية، الأنبار.
قبل يومين، صادقت وزارة الإعمار والإسكان على المخططات والتصاميم التفصيلية لمدينة الرمادي الجديدة، ضمن خطط إعمار وتطوير محافظة الأنبار التي وضعها محمد الحلبوسي حين كان محافظاً للأنبار قبل أن يصبح رئيساً لمجلس النواب.
مساحة هذه المدينة الجديدة تُقدّر بـ "خمسة عشر ألف وثماني مئة واثنين وتسعين دونماً، بواقع اثنين وعشرين الف وسبع مئة وتسعة وتسعين وحدة سكنية افقية بمساحة 200 و300 متر لكل وحدة، فضلاً عن السكن العمودي والمجمعات الاستثمارية متكاملة من حيث الخدمات البلدية والصحية وغيرها من الخدمات الأخرى"، وفق إدارة محافظة الأنبار.
الإدارة وفي بيان لها، قالت إن "المحافظ علي فرحان الدليمي عرض التصاميم على وزيرة الإعمار والإسكان والبلديات، نازنين محمد وّسو، فصادقت على التصميم الأساس، كخطوة أولى للشروع ببناء هذه المدينة التي تقع داخل المجمع الحكومي في منطقة الـ7 كيلو".
ويرى المهندس المعماري، أحمد كاظم، أن "المشروع الجديد في مدينة الرمادي سيكون انطلاقة نحو مشاريع أخرى إضافية، وسيكون محط أنظار الجميع بعد اكتماله".
كاظم قال في حديثه لـ "المحايد"، إن "المشروع سيحل مشكلة الكثافة السكانية، وسيجعل من الرمادي متنفساً لأهاليها ومن يزورها"، مشيراً إلى أن "التجربة قد تنتقل إلى العاصمة بغداد، بعدما تكتمل في الأنبار".
وأشار إلى أن "ما تنجزه الأنبار في هذه السنوات، يمثل حافزاً لبقية المحافظات والمسؤولين فيها، من أجل تقديم الخدمات إلى المواطنين، وحل المشكلة الأكبر داخل العراق، وهي السكن".
ولفت المهندس المعماري إلى أن "تصاميم مشروع مدينة الرمادي الجديدة، تضمنت حلولاً عديدة لمشكلة السكن وتوفيره، خاصة بعد اعتمادها البناء الأفقي وليس العمودي، ما يمثل استغلالاً للمساحة بشكل أكبر".
وللأنبار تجربة فريدة في الإعمار والنهضة، بعدما نفضت تراب الحرب عنها، وشهدت تطوراً سريعاً وملحوظاً في البناء والأمن، عقب ما شهدت معارك عنيفة مع داعش الإرهابي الذي سيطر على مناطق واسعة من المحافظة قبل أكثر من ست سنوات.
المحافظة حققت أهدافاً عديدة، تمثلت بتوفير بيئة آمنة ومستقرة وخدمات أساسية ومشاريع اقتصادية وترفيهية لسكان الأنبار بعد الظروف الصعبة التي خلفتها المعارك والقتال الدامي، انتقل المسؤولون المحليون في الأنبار، وهم ضمن فريق سياسي وإداري يقوده الحلبوسي، إلى تنفيذ مشاريع أكبر مثل المطار والاتجاه نحو توفير مساكن جديدة ومتطورة، أحدثها المدينة الجديدة في الرمادي.
"مشروع المدينة الجديدة يأتي ضمن جهود تطوير الرمادي والتوسع العمراني فيها"، يقول مدير بلدية الرمادي عمر دبوس، مبيناً أن هذه المدينة الواقعة على امتداد الطريق الدولي السريع من جهة الشمال، ستخصص للشرائح الاجتماعية كافة، وتوزع لهم وفق برنامج حكومي يحدد لمن ستكون الأولوية في التوزيع.
ويشير دبوس، في تصريح صحفي إلى "وجود مشاريع أخرى انتهت البلدية وإدارة محافظة الأنبار منها، وبينها ملعب الأنبار الأولمبي، ومشروع ماء الرمادي الكبير والمعرض الدولي والمجمع الحكومي الذي يضم جميع دوائر الحكومة المحلية، ومناطق ترفيهية وسياحية وخدمية كبيرة، جميعها تدخل ضمن مشروع المدينة الجديدة في الرمادي".
والأنبار أضحت حديث الصحف العالمية، حين سلطت صحيفة نيويورك تايمز، بتقرير لها على النهضة العمرانية في الأنبار، حصن وصفت الأعمال في الأنبار بـ "ازدهار الاستثمار في الرمادي كبرى مدن محافظة الأنبار غرب العراق، وبروزها كواحدة من أكثر المدن استقرارا بعد أن كانت موقعا لبعض أعنف المعارك ضد القوات الأميركية، وأعقب ذلك معركة مدمرة مع تنظيم داعش".
وقالت الصحيفة الأمريكية في تقرير لها، إنه "على ضفاف نهر الفرات، يجري العمل حاليا على بناء فندق فاخر من 20 طابقا يضم حمامات سباحة ومنتجعا صحيا ومطاعم".
ويعد فندق من فئة 5 نجوم غير معتاد في العديد من الأماكن، لكنه أول فندق يتم بناؤه منذ عقود بمحافظة الأنبار التي دمرتها المعارك، وهو جزء من طفرة الاستثمار فترة ما بعد تنظيم الدولة.
ويقول رئيس هيئة استثمار الأنبار مهدي النعمان "عندما دخلنا الرمادي عام 2016، كانت مدينة أشباح، لن ترى فيها حتى القطط والكلاب. في غضون عامين، تمكنا من تغيير الأمور". وكان النعمان يتحدث أثناء جولة بالمدينة في أحد الطرق السريعة الجديدة المحاطة بأكشاك من العشب والحديد، مع زهور البتونيا الأرجوانية والبيضاء.
وبينما أجزاء أخرى من البلاد تكافح للتعافي من تلك الصراعات، بدأت الرمادي حاليا في الازدهار. فإلى جانب الفندق الذي تبلغ قيمته 70 مليون دولار، بدأ تشييد أحد أكبر مراكز التسوق في البلاد، كما تقدم الشركات عطاءات لإنشاء مطار دولي.
وشهدت الرمادي موجات من الحرب منذ غزو الولايات المتحدة العراق عام 2003. وتكبدت القوات الأميركية أسوأ خسائرها بالمحافظة. وجاءت الموجة الأخيرة من المعارك بالأنبار في أعقاب سيطرة تنظيم الدولة على أجزاء واسعة من شمال وشمال غرب العراق عام 2014.
واستغرقت القوات العراقية المدعومة من الولايات المتحدة 3 سنوات لطرد مقاتلي التنظيم من البلاد، وكانت تلك المعارك في المقام الأول تركت الرمادي مدمرة وخالية إلى حد كبير من المدنيين.
إعادة البناء
الآن، يقوم المستثمرون العراقيون، الذين ركزوا على مشاريع خارج البلاد على مدى السنوات 18 الماضية، بإعادة بعض أرباحهم إلى الأنبار، بينما الشركات الأجنبية تقوم بإلقاء نظرة جديدة على مدينة أعيد بناؤها إلى حد كبير بعد القتال.
وفي حين أن بعض المناطق السكنية لا تزال في حالة خراب، فإن المباني الممولة من الحكومة قد غيرت المدينة. فبدلا من الشوارع المزدحمة والمليئة بالحفر وأعشاش الأسلاك الكهربائية المعلقة في كل مكان بمدن أخرى، تفتخر الرمادي الآن بنظام طرق مُعاد تنظيمه وكابلات كهربائية تحت الأرض ومكاتب حكومية مركزية.
وقال محافظ الأنبار علي فرحان الدليمي "قررنا أن أي بناء جديد يجب أن يتم بطريقة جديدة لمواكبة التخطيط العمراني الحديث" مضيفا أنهم بعد أن عانوا من الكثير من الدمار "لم يعد سكان الأنبار مستعدين لتحمل الخطاب المتطرف الذي سمح لتنظيم الدولة بالحصول على موطئ قدم هنا".
وعندما استولى تنظيم الدولة على الرمادي عام 2015، فر فقراء هذه المدينة -التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون شخص- إلى الصحراء في مخيم مؤقت بائس للنازحين العراقيين على بعد أميال قليلة. ومنعت السلطات العراقية، التي تشعر بالقلق من تسلل عناصر تنظيم الدولة، معظم النازحين من الرمادي من دخول العاصمة بغداد.
لكن العديد من سكان الرمادي، الذين كانوا قادرين على الانتقال، غادروا إلى إقليم كردستان العراق أو الأردن أو تركيا. وعندما عادوا، أراد الشباب على وجه الخصوص إقامة مراكز التسوق والمقاهي والفنادق التي اعتادوا عليها. وفي محلات السوبر ماركت الجديدة البراقة في الرمادي، تصطف قهوة ستاربكس والدقيق الخالي من الغلوتين على الرفوف.
يقول ماهر عثمان، المقاول العراقي لفندق الرمادي الجديد، الذي لم يحمل اسما بعد "سيكون هذا مركزا ترفيهيا، وليس مجرد فندق". وقال إن شركته "جزيرة العطاء" خططت لإنفاق ما لا يقل عن 20 مليون دولار من إجمالي تكلفة البناء على حمامات السباحة والمطاعم والمحلات التجارية ومنتجع صحي على الطراز المغربي.
وفي المجمع الفندقي، يقوم العمال ببناء 30 شاليها من 3 طوابق مخصصة للعائلات والأزواج الذين يقضون شهر العسل. وسيكون لكل منها حديقة خاصة ومسبح خاص على السطح، مع منطقة للشواء وإطلالات شاملة على نهر الفرات.
تشتهر الأنبار، المتاخمة للأردن والسعودية وسوريا، برجال أعمال حققوا ثروات في مجالات النقل والبناء وغيرها. ومن بين هؤلاء مالكو مشروع "القصاص" وهي شركة عائلية تقوم ببناء مركز تسوق بقيمة 70 مليون دولار وسط مدينة الرمادي.
وقال معاذ عليان، مدير "القصاص" الذي يتنقل بين دبي بالإمارات والعاصمة الأردنية عمّان "عندما اضطروا إلى الفرار، كان أهالي الأنبار يقومون بأعمال تجارية في الأماكن التي ذهبوا إليها سواء كانت تركيا أو لبنان أو الأردن أو بغداد أو كردستان العراق، وعندما عادوا، عادوا بالمال".
وأشار إلى أن عائلته قررت إنشاء مركز تسوق بقيمة 70 مليون دولار لأنهم يعتقدون أن هناك سوقا له، ولأنهم أرادوا أن يرى سكان الأنبار أنهم يستثمرون الأموال في محافظتهم الأصلية.
وسط مدينة الرمادي، تعلو رافعة ضخمة فوق إطار ما سيكون مركزا تجاريا مكونا من 3 طوابق من المحتمل أن توظف مئات المتاجر فيه أكثر من 1200 شخص.
وفي مستشفى الصفوة التخصصي الخاص الجديد، يقوم المدير محمد مصلح بتشغيل هاتفه عبر الباركود الموجود على باب للحصول على معلومات المريض. يوجد بالمستشفى معدات، مثل المجاهر الخاصة بجراحة المخ والأعصاب، غير متوفرة حتى في إقليم كردستان العراق الأكثر تطورا.
وفي مكتبه بمبنى حكومي جديد، يفتح النعمان ملفا رماديا يحتوي على أكثر من 200 ترخيص استثمار أصدره، يحتمل أن تكون قيمتها أكثر من 5 مليارات دولار. وتشمل محطات الطاقة الشمسية ومصانع الأسمدة والمجمعات السكنية والمدارس.
ويمثل المستثمرون العراقيون 70% من التراخيص، والباقي من ألمانيا والهند وتركيا والإمارات ودول أخرى. وكان حلم النعمان الكبير هو بناء مطار دولي، وقد خصصت الحكومة بالفعل 70 مليون دولار لمرحلة التخطيط الأولي.
وعلى بعد أميال قليلة من حافة الرمادي بالقرب من محطة السكة الحديد، يراقب رجل الأعمال الأردني الأميركي مهند حيمور الأرض التي تم تطهيرها من مئات المتفجرات حيث يخطط لبناء مدرسة ستكون جزءا من نظام البكالوريا الدولية، وهو نظام عالمي. ويخطط حيمور لبناء مجمع يضم فندقا وسكنا ومتاجر ومرافق ترفيهية.
في بلد معروف بالفساد، قال حيمور والنعمان إنهما يعتقدان أن الطلب على الرشاوى آخذ في الانخفاض بينما الاستقرار في الرمادي ساعد على الاستثمار.
أما تنظيم الدولة، فهو محصور حاليا إلى حد كبير في مخابئ صحراوية في أقصى غرب محافظة الأنبار بالقرب من الحدود مع سوريا، والقوات الأميركية تتحصن داخل قاعدة عين الأسد العسكرية في الأنبار، والتي كثيرا ما تقصفها الفصائل المدعومة من إيران الغاضبة من الوجود العسكري الأميركي.