لحظة وصولنا إلى مدخل مجمع العشوائيات السكني في" الصبابيات"، كان أول ما لاحظته أن نقطة التفتيش الأمنية التي تعترض دخول السيارات لم تلتفت لنا، أو يستدر أفرادها باتجاهنا، ولم يعترضوا أو حاولوا إيقافنا، فمررنا بسهولة غير متوقعة!
هذا المشهد جديد بالنسبة لي، فقبل أقل من ثلاث سنوات، كان عبور هذه النقطة أمراً قد يعرّضك للمساءلة والتحقيق، حتى بعد إظهار هويتك الخاصة بالعمكل الصحافي، لينتهي الأمر غالباً بمنعك الدخول ومغادرة المنطقة.
لم يساورنا أي شك ونحن نواصل الدخول بتمهل نحو الشارع المتهالك الذي تسوّر جوانبه الأعشاب اليابسة وأكوام النفايات، بأن الإجراءات الأمنية المشدّدة قد تغيرت بعد أن ساد اعتقاد لدى الأغلبية، بأنها كانت لحماية سكان العشوائيات من المسلحين مجهولي الهوية.
ما بين المدخل المقفر ومنازل العشوائيات أرض جرداء تخلو من الأشجار تقريباً، لكنها مغطاة بالأتربة والغبار الذي جعلها تبدو كأنها مهجورة تماماً.
بدت الأبنية من على بعد كأنها مجرّد أقفاص ملونة متباينة الحجم، بينما قطعان المواشي تتناثر بين الشوارع الفرعية الضيقة، باحثة بين النفايات على طعام لها.
ومن بعيد، بدت رايات الحزن الحسيني ترفرف مع نسيم الصيف فوق جدران متهالكة من صفائح "الجينكو (زينكو) والكارتون".
وبينما كنت أتجول وزملائي الصحافيين، استوقفنا مشهد لامرأة طاعنة في السن تجلس قرب دكان يبدو للوهلة الأولى مدخلاً لمنزلها، لكن الحاجة والعوز دفعاها لاستغلال صالته وتحويلها إلى محل صغير تعرض على رفوفه القليلة بعض علب السجائر والحلويات الرخيصة وغيرها من الاحتياجات المنزلية الضرورية.
قبل أن أصل إليها، اقترب منها طفل عمره حوالي عشرة أعوام، طالباً منها علبة صغيرة من معجون الطماطم. لكنها نهضت فجأة، ورفعت عصا خشبية ملوحة له بالابتعاد.
توجهت أنظار المارّة نحوها وهي تصرخ فيه "فلتقل لأمك أن تدفع الدين قبل شراء المزيد من الحاجيات"، ثم عادت للجلوس، وركنت العصا جانباً، ثم بدأت تدخين سيجارتها بصمت ولامبالاة بما حولها.
كانت حرارة الجو تزداد مع كلّ دقيقة تمرّ، اقتربتُ منها وألقيت التحية مبادرة بحديث عفوي معها! ردّت عليّ وهي ترفع رأسها، وسألتها بعد أن عرفتها بنفسي عن السبب وراء ما فعلته بالطفل؟
فقالت، إن "الكثير من سكنة هذا المجمع يشترون ما يحتاجونه من سلع وبضائع بالدين –الدفع بالآجل- ولا يدفعون ما عليهم من استحقاقات مالية بذريعة الفقر والبطالة".
اتفق معها صاحب دكان حلاقة رجالية مجاور قائلاً "نعم حتى حلاقة شعر رأس الزبون هنا بالدين".
يذكّرنا الحلاق الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، بأن هذه العشوائيات "يسكنها منذ عام 2005 الذين تعرضوا لعنف طائفي وهجمات فنزحوا وهجروا من منازلهم في المحافظات".
ومضى قائلاً "في هذا المجمع الآن العشرات من العوائل الفقيرة. ليس لديهم من معيل يوفر لهم لقمة العيش".
إحدى النساء التي تسكن مع زوجها بمفردهما بعد تزويج ابنتها وهي بعمر الخامسة عشر، قالت لي مؤكدة لهذا الكلام: "الفقر وفقدان المعيل يضعنا أمام خيارين إما تزويج بناتنا وهن صغيرات أو زجهن في الشوارع لبيع المناديل الورقية وقناني المياه المعدنية".
هذه الخيارات -إن جاز التعبير- ليست حلاً بنظر بتول (39 عاماً)، خاصة بعد تعرض زوجها لحادث سير عام 2010، تسبب له في إعاقة جسدية.
تقول: "نواجه صعوبة بالغة في توفير لقمة العيش، وإنهاء معاناتنا اليومية".
وحاولت بتول وغيرها من النساء اللواتي يعانين من مشقة توفير لقمة العيش وفقدان المعيل، اللجوء إلى الجهات الحكومية وطلب الرعاية، لكن بلا جدوى!
تؤكد بتول أن "الجهات الحكومية تمنع ما خصصته من رواتب إعالة على الذين لم تتجاوز إعاقتهم الجسدية 80%".
"كلما راجعت الجهات المعنية أخبروني بأن زوجي لا يستحق راتباً من مديرية الرعاية الاجتماعية، لأن إعاقته ليست وفق الضوابط التي تسمح له بالحصول على راتب"، توضح بتول.
وبدافع الشعور بمعاناة الآخرين، اصطحبتني بتول إلى منزل تحيطه النفايات من كل جانب، بينما بُنيت جدرانه من الطين وصفائح "الجينكو"، ومضت مسرعة إلى باب مهترئ في آخر باحة ترابية. تسأل عن زينة، فنادت عليها أمها من دون أن تعرف السبب!
كان زينة بعمر 16 سنة، تمسك حجابها من طرفيه وهي تحاول ارتداءه مسرعة قبل وصولها إلينا.
تقول زينة التي تعمل في بيع المناديل الورقية في شوارع العاصمة: "محصول المناديل أقل بكثير من أن أشتري ما أحلم به كما غيري من الفتيات".
كان ثوبها الرثّ متسخاً تملؤه البقع الداكنة، وآثار التعرّق على نسيجه، تضيف "لكن هذا العمل الوسيلة الوحيدة للعيش".
في المقابل، تقوم والدة زينة بأخذ أي مال تحصل عليه الفتاة المراهقة من عملها طيلة النهار، ويتراوح عادة بين خمسة آلاف دينار عراقي و15 ألف دينار (3-7) دولارات في اليوم.
"لم أدخل المدرسة ليوم واحد في حياتي.. كان علي أن أترك كل أحلامي لأشارك في إعالة أمي وأخي الصغير"، تقول زينة بحسرة.