المحايد/ بغداد
بعد أشهر من عمل سيف (17 عاماً) في محل لبيع المستلزمات المنزلية والغذائية بالجملة، شعر صاحب المحل بالصدمة عندما تفقد تسجيلات كاميرات المراقبة.
يتذكر صادق راهي (51 عاماً) تلك اللحظات، بقوله "سيف صغير بالعمر وتعهدتُ برعايته والاهتمام به، كما خصصت له مبلغاً أسبوعياً مناسباً، لكنه ورغم ذلك، قام بسرقة مبالغ مالية من المحل، بالتعاون مع مراهق آخر بسنه تقريباً".
سيف لم يكن على دراية بوجود الكاميرات، عندما قام بعد انتهاء العمل وإغلاق المحل ليلاً من قبل صادق، بالعودة إليه بعد 3 ساعات، والدخول من منفذ تم غلقه بالطابوق في الحائط (كان مكاناً معداً لوضع جهاز التبريد)، والتسلل بمساندة رفيقه إلى المحل وسرقة كل ما فيه من أموال.
يقول صادق "أستغرب كمية العداء والعنف التي بداخل هذا المراهق الذي وقفت بجانبه في توفير فرصة عمل له.. ما يؤلمني حقاً ليس سرقة المال، بل تخريب المحل وإتلاف ما في داخله من سلع غذائية وبضائع".
ويشير إلى أنه "لم يفعل شيئاً لسيف" بعد سرقته المحل، مكتفياً بطرده.
ويوضح صادق: "نحن نعيش في مجتمع مرعب، لذا فضلت طرده والتخلص منه. ولم أطلب منه حتى استرجاع المبالغ التي سرقها، ولم أقدم شكوى قضائية ضده، رغم توافر الأدلة التي تدينه".
ويؤكد: "الرشاوى والمحسوبية منتشرة في كل مكان بالبلاد، لذا لا استبعد أن تنقلب الأمور وأصبح أنا المتهم رغم الأدلة ويتحول سيف لضحية، أيضا لدي أسرة وأقلق على أطفالي وبناتي من الانتقام والثأر العشائري".
لا خوف أو قلق"
قبل أسابيع قليلة، مرت زهراء حميد (16 عاماً) بموقف تسبب لها بمشكلة. فعندما كانت تتبضع مع أختها نورس (21 عاماً) في إحدى المتاجر الغذائية ببغداد، تعرضت لتحرّش عامل تنظيف أرضية المتجر، إذ كان يمسك بعصا ممسحة أرضية ويمررها بين قدميها محاولاً إرباكها.
تكررت محاولات العامل الذي لم يتجاوز عمره (13 عاماً) في إرباكها والسخرية منها، رغم محاولات إيقافه عن هذا الفعل، لكنه ظل يلاحقها ويسخر منها.
تقول نورس "كان سلوكه عنيفاً. فكلما زجرته وحاولت منعه سخر منّا وعاود تمرير الممسحة بين قدمي أختي بعدوانية".
وتضيف "شعرت بأنه تمادى كثيرا، لذا صرخت وبدأ زبائن المتجر بالتجمع حولنا، وهو لا يزال يسخر منا فشعرت بالإحراج من الموقف، فغادرنا المكان".
"لكني اتصلت بأبي وأخبرته بالأمر، وذهب بدوره لصاحب المتجر الذي قام باستدعاء العامل، وبعد اعترافه عاقبه بطرده من العمل لسوء أخلاقه"، تتابع نورس.
وتبيّن نورس أنها ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها لمضايقات مراهقين أعمارهم أقل من 18 عاماً، واصفة أفعالهم بأنها "عنيفة وصادمة، خالية من الشعور بالخوف أو القلق من أحد".
ولا تستغرب عدم خوفهم، كونهم لا يحاسبون على أفعالهم، مؤكدةً أن العامل الذي ضايقها وطُرد من عمله، عاد إليه بعد أقل من أسبوع.
وتقول نورس "لكن أبي تجاوز الموضوع بعد معرفته بأن هذا العامل يشتغل في المتجر لمساعدة أمه في توفير لقمة العيش، بعد طلاقها من أبيه، الذي تركهم دون التفكير بمصير أطفاله الثلاثة، وكان العامل أكبرهم سناً".
قانون رعاية الأحداث
من جانبها، ترى المحامية نوال خضير، التي تتابع جيداً وتهتم كثيراً بقضايا الأحداث في المحاكم العراقية، أن الكثير ممن تتراوح أعمارهم بين (8- 18) عاماً، يضطرون إلى ارتكاب جرائم السرقة والاحتيال للحصول على بعض المال.
وتقول إن "انقطاع الدراسة والتعليم والفقر والعنف، تدفع هؤلاء الأطفال إلى الجنوح وارتكاب الجرائم وتعاطي المخدرات، كما يتعرضون للاستغلال في تجارة الجنس والأعضاء".
"إذ تعمد الكثير من العائلات إلى دفع أطفالها لسوق العمل، من أجل توفير لقمة العيش قسراً، وهذا الأمر تزايد بشكل ملحوظ بعد تفشي فيروس كورونا"، تتابع خضير.
والحدث الجانح هو ذلك "الفرد المنحرف الذي يرتكب الأفعال الإجرامية البسيطة أو الخطيرة التي تخرج عن الشرع والقانون والأخلاق والقيم وجميع الممارسات التي يقرها المجتمع، وتنص المادة (3) من قانون رعاية الأحداث رقم 76 لسنة 1983، على أن يسري هذا القانون على الحدث الجانح وعلى الصغير والحدث المعرضين للجنوح وعلى أوليائهم.. بالمعاني المحددة لأغراض هذا القانون، وهي:
أولاً: يعتبر صغيراً من لم يتم التاسعة من عمره.
ثانياً: يعتبر حدثاً من أتم التاسعة من عمره ولم يتم الثامنة عشرة.
ثالثاً: يعتبر الحدث صبياً إذا أتم التاسعة من العمر ولم يتم الخامسة عشرة .
رابعاً: يعتبر الحدث فتى إذا أتم الخامسة عشرة من عمره ولم يتم الثامنة عشرة".
المشكلة برأي خضير، تتمثل في أن "غالبية الناس الذي يتعرضون لعنف الأحداث وجرائمهم، لا يقومون بالإبلاغ عنهم في مراكز الشرطة أو القضاء؛ خشية أن يواجهوا مشكلات تتعلق بالابتزاز أو الثأر والانتقام، من جانب جماعات أو عشائر لها علاقة بالحدث الجانح".
وتؤكد أن "ضعف سلطة القانون جعلت الناس يعارضون اللجوء للقانون بشدة، وهذا يتعلق أيضاً بالفساد المستشري داخل المنظومة القضائية".
هشاشة الأسرة
في نفس السياق، تقول الخبيرة في علم النفس الاجتماعي الدكتورة صبيحة الصالحي، إن "لهشاشة الأسرة وتفككها تأثير يمكن أن يفسر سبب جنوح الأطفال والأحداث في المجتمع العراقي".
وتضيف "عندما تكون الأسرة فقيرة وعلاقة أفرادها مع بعضهم البعض سيئة وكذلك فاقدة لأحد الأبوين، تصعب السيطرة على تربية الأبناء ورعايتهم بشكل صحيح، وحمايتهم من التورط مع أصدقاء السوء أو عصابات الجريمة المنظمة".
ووفق وزارة التخطيط العراقية، تشكل نسبة صغار السن (صفر- 14 عاماً)، 40.4% من مجموع سكان العراق، الذي يقدر بـ40 مليون نسمة.
وتتابع الصالحي: "من أصعب الأمور التي تواجه البلاد الآن، هي أبناء من تورطوا بقضايا إرهابية. إذ أن لوصمة المجتمع الأثر الكبير في جنوح الصغار منهم وانخراطهم مع جماعات مسلحة وخارجة عن القانون".
وكان مدير شرطة أحداث بغداد العميد عدنان حمود سلمان، كشف في تصريح سابق له، عن آلية التعامل مع أبناء الإرهابيين، مشيراً إلى أن عقوبة مستغلي الأحداث تصل إلى السجن المؤبد وغرامة مالية.
وبحسب سلمان، فإن أكثر من ألقي القبض عليهم من أبناء الإرهابيين متهمون بالانتماء، أي أنهم لم يرتكبوا جرائم، وتم إطلاق سراحهم عند إصدار قرار العفو.
وشددت مديرية الأحداث على أهمية انسجام هؤلاء الأحداث مع مختلف شرائح المجتمع، من أجل توعيتهم والاطلاع على الواقع، للحيلولة دون الرجوع للأفكار المتطرفة التي تلقنوها، وكي يبقى الأمر بيد وزارة العدل، فهي من تقرر آلية التعامل معهم، كما أوضح سلمان.
وتعليقاً على ذلك، نقول الصالحي، إن "الحكومة والجهات المعنية لا تفعل شيئاً. وما تضعه من خطط وسياسات إستراتيجية للنهوض بواقعهم (أبناء الإرهابيين) المأساوي المتمثل بحرمانهم من التعليم ومن احتياجاتهم اليومية، يجعلهم فئة ضعيفة مهيأة لارتكاب الجرائم".