المحايد/ سياسي
يحتل مشروع قانون" التجنيد الإلزامي" حيزاً كبيراً من النقاش العام في العراق. ومنذ إقرار مجلس الوزراء العراقي في 31 أغسطس 2021 مشروع القانون، وإحالته إلى مجلس النواب للمضي في مراحله التشريعية، والمواقفُ تتباين بين مؤيدة ومعارضة لإعادة العمل بالتجنيد الإلزامي الملغى منذ أيار 2003.
وفيما يرى المؤيدون في مشروع القانون خطوة هامة على طريق بناء جيش قادر على مواجهة مخاطر الإرهاب، وتعزيز قيم الولاء والانتماء للوطن، يعتقد معارضوه أن ذلك سيفتح باباً جديداً من أبواب الفساد، وأنه شكل من أشكال عَسكرة المجتمع.
الجدل القائم حول "التجنيد الإلزامي " أو "خدمة العلَم" أو "التجنيد الإجباري"، كما تتعدّد المُسميات، يعيد إلى الأذهان تاريخاً طويلاً من الجدل الذي سبق إقرار التجنيد الإلزامي في 12 يونيو 1935، في الدولة العراقية الحديثة، وما صاحب وتلا ذلك.
"عسكر نظام".. فرمانات عثمانية وثورات عراقية
عندما قرر الوالي العثماني على بغداد عمر باشا (1857-1859) تطبيق التجنيد الإلزامي على العراقيين، والذي كان يُسمى "عسكر نظام"، جمع علماء بغداد وأعيانها لإقناعهم بالأمر، واستبق تلاوة "فرمان التجنيد" بتوزيع مبالغ مالية بهدف استمالتهم، كما تذكر دراسة للباحثة، أنوار ناصر حسين، بعنوان "موقف العشائر العراقية من التجنيد الإجباري"، نشرت في مجلة كلية الآداب العراقية عام 2012.
الخبير الأمني أحمد الشريفي يرى أن ذلك الأمر "يتنافى وبناءات العراق وفق المفاهيم الحديثة ما بعد سقوط الدكتاتورية وهو سمة تلتصق بالأنظمة الشمولية المغلقة".
"الرشوة" التي شجعت عدداً من أهالي بغداد على تجنيد أولادهم، لم تحدث نفس النتيجة عندما شرع الوالي بفرض التجنيد على العشائر خارج بغداد. قابلت العشائر "فرمان التجنيد" بإعلان التمرد والعصيان، حتى أن عشائر بأكملها اختارت ترك مزارعها والاختفاء عن وجه السلطات العثمانية، وهو ما تطور إلى معارك بين قوات الوالي والعشائر، انتهت في 25 أيلول 1859 بعد عزل الوالي، وهو ما عدته العشائر انتصاراً لموقفها.
عَزلُ عمر باشا لم يُنهِ "فرمان التجنيد"، إذ عمل الوالي مدحت باشا على تطبيقه ضمن حزمة من "الإصلاحات"، فقام بتوطين العشائر العراقية لتسهيل عمليات المسح السكاني، واعتمد نظام القرعة في عملية التجنيد، وأقر إعفاءات من التجنيد، واستثنى بعض المناطق، فضلاً عن تأسيسه معامل ومصانع ومدرسة عسكرية لدفع عملية التجنيد.
رغم نجاح المساعي التي بذلها مدحت باشا، اندلعت في سبتمبر 1869 ثورة رافضة للتجنيد الإلزامي، قابلها الوالي بقمع شديد، واتخذها ذريعة لتطبيق قانون التجنيد الإجباري على العراق بأكمله.
توالت قوانين التجنيد الإلزامي حتى نهاية الدولة العثمانية التي توسعت بإنشاء القواعد العسكرية في العراق. وبالتزامن مع ذلك، واصل العراقيون مقاومة التجنيد عبّر الفرار من وجه السلطات. وزادت وتيرة هروب الجنود من الخدمة العسكرية خاصة بعد إعلان الدولة العثمانية دخول الحرب العالمية الأولى عام 1914، وفقاً للدراسة.
التجنيد الإلزامي.. سنوات من المحاولة
بدأ الاحتلال البريطاني للعراق في العام 1941، وخلاله لم يسْعَ البريطانيون إلى فرض التجنيد الإلزامي، بل إن الدلائل تشير إلى رفضهم للتجنيد ودعمهم لعدد من الاحتجاجات الرافضة له.
وعندما بوشر العمل في تأسيس الجيش العراقي في العام 1921، أصدر مجلس الوزراء في 26 أيار 1921 قانون "التطوع المؤقت"، دون أن يتضمن نصوصاً إلزامية.
وشهد عام 1923 أوّل محاولات لفرض التجنيد الإلزامي على العراقيين عندما قدمت حكومة جعفر العسكري مقترحاً إلى المجلس التأسيسي بجعل "الدفاع عن العراق واجبا وطنيا"، وهو المقترح الذي لم يأخذ به المجلس. وتجددت المحاولة بعد عام في عهد حكومة ياسين الهاشمي الأولى من خلال إدخال تعديل على المعاهدة البريطانية- العراقية، الموقعة عام 1922، يجعل من "التجنيد الإلزامي طريقة وحيدة لتوسيع الجيش العراقي"، لتلاقي المحاولة مصير سابقتها.
رغم تأجيل مناقشته.. "التجنيد الإلزامي" يثير جدلا في العراق
عَرف العراقيون التجنيد الإلزامي، في أواخر فترة سيطرة الإمبراطورية العثمانية على العراق، وبالضبط عام 1877، وكان يُطلق عليه حينها "سفر برلك". في ذلك التاريخ سيق عشرة آلاف عراقي إلى الحرب في القوقاز. لم يرجع منهم إلا "نفر قليل" بعد موت أغلبهم برداً وجوعاً. من هناك، بدأ العداء التاريخي بين العراقيين والتجنيد الإلزامي.
وتُرجع دراسة "مواقف العشائر العراقية من قانون التجنيد الإجباري" أسباب فشل المحاولات المستمرة للحكومات العراقية المتعاقبة سن القانون إلى موقف الانتداب البريطاني الرافض للقانون، والمتخوف من تأثير القانون على مصالحه في العراق، إضافة إلى الرفض العشائري الواسع للقانون والتهديد بالتمرد في حال إقراره.
وفي مناسبات أخرى، كانت الأزمات الاقتصادية ومخاوف حرمان عجلة الصناعة المحلية الناشئة من الأيدي العاملة مبرّرات ساق لتأجيل تشريع قانون الخدمة الإجبارية.
وبعد إخفاقات طويلة، نجحت حكومة ياسين الهاشمي الثانية، في 12 يونيو 1935، في إصدار قانون "الدفاع الوطني"، والذي فرض التجنيد الإلزامي في البلاد، وهو القانون الذي بقي معمولاً فيه حتى صدور قانون "الخدمة العسكرية" لسنة 1969.
الأيزيديون والرميثة.. ثورات دون نتائج
تعود جذور الرفض العراقي للتجنيد الإلزامي إلى النزعة البدوية التي كانت سائدة ونشاطها الاقتصادي غير المستقر، حيث كانت تميل إلى نظام تغيب عنه السلطة القوية التي يعتبر الجيش أحد أشكالها، وفقاً للدراسة.
إضافة ذلك، كانت العشائر العراقية تتخوف على أبنائها في الجيش. في سنة 1877، ساقت الإمبراطورية العثمانية عشرة آلاف عراقي إلى الحرب في القوقاز، لم يرجع منهم إلا "نفر قليل" بعد موت الأغلبية برداً وجوعاً، كما يورد عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث".
هذه العوامل حركت الثورات ضد محاولات العثمانيين فرض التجنيد الإلزامي، وضد فرضه في الدولة الحديثة، مضافاً إليها عوامل جديدة مثل التدخلات البريطانية، والمواقف الدينية لدى بعض الأقليات العراقية.
ومن الأمثلة على الثورات ضد التجنيد الإجباري الذي فرض عام 1935، ثورة الرميثة في أبريل 1935 التي أعلن خلالها العصيان على قانون التجنيد، والتي تمكنت حكومة الهاشمي من إخمادها بالقوة العسكرية.
الأيزيديون عارضوا أيضاً التجنيد الإلزامي، مبررين موقفهم بأن ديانتهم تمنعهم من الدخول في الجندية، وعليه أحجم قطاع واسع من الشباب في سن التجنيد عن التسجيل بتحريض من الزعيم الأيزيدي داود الداود.
وبعد أن رفضوا عرضاً من حكومياً بتشكيل فوج خاص من الأيزيديين يُسمح لهم فيه بالقيام بطقوسهم الدينية، قامت الحكومة بشن عملية عسكرية ضدهم في قضاء سنجار، انتهت بخضوعهم للقانون.