المحايد/ مجتمع
لم يكن مجال عمل اقبال جابر (51 عاماً) في البقالة التي كانت تتخذ من باحة منزلها الخارجية مقراً لها يكفي لتسديد المبالغ التي أستدانها زوجها لشراء سيارة أجرة عام 2018، بل نشاطها في تصنيع الطرشي والخل بأنواعه.
تتذكر جابر تلك الأيام بالقول: "السيارة بعد أشهر قليلة تعرضت إلى حادث اصطدام وبدأت الضغوط تنهال علينا من أصحاب المبالغ التي قام زوجي باستدانتها، ففكرت باستخدام المتبقي وغير المرغوب فيه من الخضراوات والفواكه لتصنع (الطرشي والخل) مثل الخيار، والباذنجان والتفاح والفلفل الأخضر وغيره".
وتضيف أن "أصحاب البقالة يقومون بعزلها ليلاً ورميها في القمامة. ولأني تعلمت تصنيع الطرشي والمخللات من أمي، اتفقت معهم على الاستفادة منها".
بداية، ركزت جابر في عمل الطرشي والمخللات بالطلب وحسب أذواق الزبونات اللواتي كن من نفس المنطقة التي تسكن فيها. لكن ما حدث لاحقا هو اعتماد أصحاب متاجر بيع المواد الغذائية وبعض المطاعم وباعة الأكلات السريعة عليّها في تجهيزهم بين الحين والآخر بكميات متفق عليها.
وحسب جابر إنه تبين أن هذه الخضراوات والفواكه التي كانت ترمى في القمامة كل يوم، قد حققت نجاحاً "وتمكنت من تسديد الديون والعمل في مشروع مربح يوفر احتياجاتهم اللازمة".
وتؤكد: "تعوّد الكثير من الزبائن على الشراء لما تتميز المنتجات التي أصنعها من جودة ونظافة. كما إن أثمانها أرخص بكثير من علامات تجارية معروفة رغم أن البعض لا يتقبل فكرة تناول شيئاً كاد أن ينتهي به المطاف في القمامة".
فضلات الأطعمة
ويشكل استخدام ما يتم إهداره من خضراوات وفواكه وأطعمة – منفذاً لكثير من أصحاب محلات البقالة والمطاعم.
ويقول الحاج نوري علوان (67عاماً) الذي يدير مطعما للأكلات الشعبية في العاصمة بغداد منذ أن كان في العشرين من عمره: "بدلاً من أن تتعرض للتلف وتُرمى في القمامة هناك من يحتاجها".
ويرى علوان أن غالبية أصحاب البقالة والمطاعم يلجأون إلى توزيع ما تبقى من خضروات وفواكه بعد إغلاق محلاتهم ليلاً إلى كل من يحتاجها، وخاصة الفقراء الذين لا يتمكنون من التسوق والشراء.
ويضيف أنه "دائما ما يقوم بتجميع الطعام الفائض وتوزيعه على الفقراء والمحتاجين، وليس كما يعتقد البعض بأننا نقوم بتوزيع فضلات الأطعمة المتبقية في الصحون والأطباق".
ثقافة مجتمعية
وترى ماجدة زهير ( 47عاماً) أن هدر الطعام وعدم استهلاكه لا يحدث عادة عند أصحاب المهن المتعلقة بالأطعمة والمأكولات والخضراوات بل في المنازل العراقية.
وتقول زهير وتعمل في وظيفة حكومية، إن "الكثير من العوائل العراقية يعمدون إلى طبخ وإعداد كميات كبيرة من الأطعمة حتى وإن لم يتم استهلاكها كلها كثقافة مجتمعية مبنية على عبارة (العين تشبع قبل البطن)".
كما أن غالبيتهم ينظرون لإعداد الطعام بكميات كبيرة من السمات الأخلاقية التي تعني أن هذه العائلة أو تلك العشيرة (كرماء) أي (أهل خير) وليسوا من حديثي النعمة، تضيف ماجدة.
وتشير إلى أن "المرأة التي تعد أو تطبخ كميات قليلة من الأكل وخاصة في المناسبات دليل على أنها تنحدر من عائلة (فگر) بخيلة أو لم يشبع أفرادها خلال حياتهم بسبب الحرمان".
وتضيف: "كان وما زال يُنظر لعائلة الفتاة التي ينوون خطبتها لأحد إلى طبيعتهم في اعداد الطعام وتقديمه، فإذا كان بكميات شحيحة يعرضون عن خطبتها، لأنها أكيد تربت على نفس التوجهات والأفكار".
نادرات ومدبرات
في المقابل ترى الحاجة نبيلة محمود (67 عاماً) أن النساء في السابق من أمهاتنا وجداتنا كن (نادرات ومدبرات)، حيث لا يتلفن الاطعمة بل يحتفظن بها لأكثر من يوم في قدور ليقمن بتقديمها لأفراد العائلة في اليوم التالي مع بعض التعديلات عند طبخها.
"أما نساء وفتيات اليوم فإن أغلبهن مبذرات ولا يعرفن التقنين والتدبير"، تقول لـ "ارفع صوتك".
وتضيف أن تركيبة المجتمع العراقي تعاني من تناقض تجاه مسألة كميات الأطعمة المعدّة، ففي الوقت الذي لا يتقبل أخلاقياً أن يتم اعداد كميات قليلة من الأطعمة ينتقد دينياً من يضطر إلى هدرها وعدم استهلاكها ورميها في القمامة.
وكانت ممثلية برنامج الأغذية العالمي في العراق، قد كشفت عن نسب مرتفعة من العراقيين الذين هم بحاجة للغذاء وأولئك الذين لا يمتلكون ما يكفيهم منه، فضلًا عن تأثير خطوة تخفيض الدينار على نسبة الفقر في البلاد.
وقال ممثل البرنامج عبد الرحمن ميجاج في تصريح سابق إن "10 في المئة من الناس يستخدمون (استراتيجيات التأقلم) للمساعدة في وضعهم، لأنهم لا يملكون ما يكفي من الطعام لتناوله، من بين هؤلاء الـ 10 في المئة نحو 35 في المئة يشترون أغذية أرخص، ومن نفس الـ 10في المئة، يقترض نحو 27 في المئة طعاما".
سوء إدارة
ويرى الخبير الاقتصادي علاء حافظ أن المشكلة تقع في التفاوت الكبير في الرواتب والأجور بين العراقيين، مما قسم لمجتمع إلى طبقة مترفة وميسورة مستفيدة من خيرات البلاد وأخرى معدمة وفقيرة تعتمد في معيشتها على المساعدات والمنح الخيرية والتطوعية.
ويقول إن "هذا الأمر يعود بالأساس إلى سوء إدارة الدولة في توزيع قدراتها وخيراتها بين أفراد الشعب العراقي".
وكانت مفوضية حقوق الإنسان قد طالبت باتخاذ اجراءات لإعادة "التوازن الغذائي" لفئات المجتمع العراقي الأكثر تضررا من رفع سعر الدولار.
وقال عضو مجلس المفوضية أنس أكرم محمد، في بيان، إن "رفع سعر الدولار أدى لزيادة في أسعار السلع والمواد الغذائية بنسبة 14 في المئة وهو ما يشكل تهديدا خطيرًا للأمن الوطني الغذائي ويضاعف من مستويات الفقر المعلنة في العراق".
وشدّد على ضرورة أن "تتعامل الحكومة بجدية ومهنية مع تقرير برنامج الاغذية العالمي التابع للأمم المتحدة (WFP) الذي أشر خلل الإجراءات الحكومية غير المدروسة وأثرها على السوق والمستوى المعيشي وأمن العراق الغذائي والإنساني مع تطابق الإحصائيات المعلنة من وزارة التخطيط العراقية والمنظمات الدولية والتي أشرت تجاوز نسبة الفقر في العراق حاجز 3.1 في المئة.
ولكن الخبير الاقتصادي يعتقد أن الحال سيبقى على ما هو عليه إن لم يتم القضاء على الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية ودوائرها.
ويشير حافظ إلى أن الإصلاح والتغيير هما الحل الوحيد للحد من هذا التفاوت الكبير بين الطبقة المستفادة والطبقة المعدمة في البلاد.
ووفقا لوزارة التخطيط، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي خلال عام 2020، قد انخفض مقارنة مع ما كان عليه خلال عام 2019 الذي سبقه، بسبب تراجع اسعار النفط الذي يشكل النسبة الاكبر في تكوين الناتج المحلي الاجمالي، بالإضافة الى حالة الانكماش الاقتصادي نتيجة التأثر بجائحة كورونا.
وقال المتحدث الرسمي لوزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، إن الناتج المحلي الاجمالي لعام 2021 بلغ (198) ترليون و(700) مليار دينار، وهو أقل مما وصل اليه في عام 2019 حيث بلغ في العام المذكور (277) ترليون، و(800) مليار دينار، مشيرا، الى ان متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي لعام 2019 بلغ (7) ملايين و(100) الف دينار، الا انه انخفض في عام 2019 إلى (4) ملايين و(900) الف دينار.
الفاقد والمهدر
للمرة الثانية، يُحيي العالم في 19 من سبتمبر كل عام، الموافق الأربعاء، اليوم الدولي للتوعية بالفاقد والمهدر من الأغذية، لأجراء تحسينات أوسع نطاقاً في النظم الزراعية والغذائية من أجل تحقيق الأمن الغذائي وسلامة الأغذية وتحسين جودة الأغذية وتحقيق نتائج تغذوية، وكذلك في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة وفي خفض الضغوط المفروضة على الموارد من الأراضي والمياه.
وركزت الأمم المتحدة في العام الحالي 2021، على القطاع العام (السلطات الوطنية أو المحلية) والقطاع الخاص (الشركات، بما في ذلك المنتجين)، فضلاً عن الأفراد، من أجل المضي قدماً بواسطة الابتكار للحد من الفاقد والمهدر من الأغذية، والمساهمة في إصلاح النظم الزراعية والغذائية وإعادة بنائها على نحو أفضل.
يأتي هذا في وقت أحتل العراق فيه المرتبة الثانية في هدر الطعام، بحسب التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وأفاد التقرير بأن 931 مليون طن من الطعام ترمى في النفايات عبر العالم سنوياً، 64 في المئة منها مهدر من المنازل، فيما بلغ متوسط إهدار الفرد سنويا من الطعام حول العالم حوالي 74 كغم.
وذكر مؤشر الأغذية المهدرة أن 17 في المئة من الأغذية المعدة للاستهلاك في المتاجر والبيوت والمطاعم مآلها إلى صناديق النفايات، ونسبة 64 في المئة من تلك الأغذية المهدرة مصدرها البيوت.
وجاء العراق بعد البحرين في المرتبة الثانية من متوسط حجم إهدار الفرد للطعام سنويا بواقع 120 كغم، وبعده السعودية بـ 105 كغم ثم لبنان بـ 105 كغم، وبعدها السودان بـ 97، والكويت وعمان وقطر والإمارات بـ 95، ثم الأردن بـ 93، وبعدها الجزائر ومصر والمغرب وتونس بـ 91 كغم لكل منهم